حرب ذكية بأسلحة غبية

شؤون الإستثمار

بقلم عبد الهادي مزراري

 

في تسعينيات القرن الماضي، انتشرت “لعب إلكترونية”، استمتع بها الأطفال وحتى بعض الكبار، ومن بين المواضيع التي تضمنتها “مباريات رياضية” و”فنون قتالية” و”معارك مختلفة في الحروب”.

تميزت هذه الألعاب بنسبة أكبر بطابع العنف، الهجوم والهجوم المضاد، القتل والتدمير، المطارات المستمرة، كلها جعلت المتعاطي معها في حالة البحث عن النصر الدائم.

غالبا ما كانت تنتهي اللعبة في حالة انهزم فيها المستعمل بضرب الجهاز الذي يلعب معه أو إلقاءه أرضا والانصراف بميزاج مضطرب.

مع بداية الألفية الثالثة ودمقرطة الانتنريت أصبحت هذه اللعب الإلكترونية جزء من حياة الأطفال من خلال الهواتف المحمولة، وازدادت رعونة بعد دمجها في الشبكات العنكبوتية، ثم صارت أكثر قوة مع ربطها بالذكاء الاصطناعي.

ظن الجميع أنها مجرد “لعب إلكتونية”، لكنها في الواقع كانت أسلحة تم وضعها بعناية فائقة بين أيدي الأطفال، الذين صاروا في ما بعد شبابا أصبح يحمل لقب “جيل الانترنيت”، وأصبحت اليوم له علامة بحرف “Z”، تسمه بكل افتخار وتميز.

ظن الجميع أنها مجرد لعب بريئة، بينما كان في مكان ما من العالم خبراء منهمكون في التخطيط بتحويل أبطال هذه اللعب إلى واقع حقيقي، ويتعلق الأمر بمئات ملايين البشر عبر عشرات الدول.

في أول تجربة على الميدان تمت في أوكرانيا بين عامي 2004 و2005، وعرفت بالثورة البرتقالية، استخدم فيها الانترنيت لإخراج مئات الآلاف من الجماهير للتظاهر ضد القيادة وإسقاطها.

جرت العملية بسبب حرب بين دول الناتو وروسيا، وبدل أن تكون حربا باستخدام الأسلحة، كانت هجوما إلكترونيا بكم كبير من المعلومات المستفزة استهدفت الشعب الأوكراني واخرجته في مظاهرات مليونية لإسقاط نظامه، الذي لم يكن مواليا للغرب.

بعدها بست سنوات شكلت البلدان العربية مسرحا لاستضافة النسخة الثانية من الحرب الإلكترونية تحت اسم “الربيع العربي”، لكن بوجه اكثر عنف وأشد دموية.

تطلب الأمر بعض المعلومات عن قيادات وأنظمة عربية وفرتها تسريبات وكيليكس في دجنبر 2010، تتحدث عن الثراء الفاحش للرئيس التونسي زين العابدين وزوجته، وفوبيا القذافي وغطرسته، وسمسرات مبارك وعائلته، ونرجيسية بشار وحاشيته.

وتحت عنوان “الحرية للشعب” تم تحريك الحشود البشرية باتجاه الساحات وقصور الحكام، أبطالها قيادات شبابية سئمت من الخوف، وواجهت الحكام الطغاة، الذين لم يكن منتظرا منهم إلا استعمال السلاح ضد المتظاهرين.

كلما اتصل زعيم عربي وقتها بالرئيس الأمريكي باراك أوباما يطلب دعمه أو مجرد رأيه، كما فعل مبارك والقذافي وبنعلي، كان رد أوباما كالتالي “احترام إرادة الشعب”.

في الحقيقة كانت الشعوب في هذه الدول مثل “المسيرات عن بعد” محشوة بما يكفي من الشعور بالرغبة في الانعتاق والانتقام من حكامها.

في قلب هذه الصورة توجد “الخدعة الكبيرة” (The Big Trick)، تقوم على تحريك جحافل البشر وإحداث اضطرابات وإشعال حروب أهلية في إطار ما عرف ب “الفوضى الخلاقة”، (creative chaos).

خلال هذه الفوضى تم توظيف الشباب، الذين كان عمرهم بين 18 و30 من العمر، معظمهم تدرب نفسيا على القتل والتدمير في لعب إلكترونية سواء في قاعات الألعاب (Salles de jeux) أو مباشرة على أجهزة الكمبيوتر.

تظهر اليوم النسخة الثالثة من الحرب الإلكترونية باستعمال جيل “Z”، في أوج استخدام عنصر التكنولوجيا الرقمية، حيث يوفر الرئيس الكبير الخفي (The Hidden Big Boss)، غرفة عمليات ديسكورد (Discord)،

تكون مظلمة، ويستضيف فيها أبطال ملثمون لا أحد يعرف أحد، كل القواسم المشتركة بينهم فئة عمرية متقاربة، شعور بالتهميش، ورغبة في نيل الاعتراف، ومطالبة بالحقوق”.

تكمن الخطورة داخل هذه الغرفة المظلمة في استضافة كل الأطراف التي تريد تصفية حساباتها مع طرف معين يكون موضوع الاستهداف.

كمثال على ذلك يريد الرئيس الكبير الخفي قلب الاوضاع في بلد معين، يحدد مطلبا يكون شرعيا (حقوق اجتماعية اقتصادية وحتى سياسية) يجمع لها ما يكفي من الاشخاص المؤمنون بها، ويفتح النقاش بكل حرية وجرأة في مشهد يشعر كل من داخل تلك الغرفة بأنه بطل حقيقي.

لكن الأكثر خطورة في الأمر، بما أن الغرفة مظلمة والحضور مقنع ينضم إليهم بسهولة كل من يريد استهداف الجهة التي تم وضعها في ميدان الرماية.

بذكاء خارق تبطل القاعدة التي تقول “عدو صديقي عدوي”، أي بمعنى آخر يستخدمك الرئيس الكبير الخفي على النحو التالي:

– في المرحلة الأولى يستخدمك الرئيس الكبير الخفي مثل طعم لإخارج صديق لك مكشوف الوجه إلى الساحة، ويجعله في وضع صدام مع قوات الأمن.

– في المرحلة الثانية يأتي دور العدو للاصطفاف إلى جانبك.

– في المرحلة الثالثة تخرج الأمور عن السيطرة وتحدث الكارثة.

– في المرحلة النهائية بعد إزالة الأقنعة تكتشف أنك تعاونت مع عدو لقتل صديقك.

إن أحد أخطر أوجه الحرب الإلكترونية تكمن في استخدام المجموعات البشرية سلاحا وهدفا في الوقت نفسه، وتقلب كل المعادلات في الاصطفاف والتحالف والتخندق وتجعل من الشخص عدو نفسه، وفي النهاية لا أحد ينتصر سوى الرئيس الكبير الخفي. لأنه قاد حربا ذكية بأسلحة غبية.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.