نحو اللاجندرية في الخطاب الأدبي

                               إعداد: سعاد الوردي

 شاعرة، ونائبة رئيسة المركز        الدولي للأبحاث والدراسات القانونية والاجتماعية

لا شك أن حقوق المرأة ومكتسباتها بما فيها التعبير عن أفكارها وتبادل همومها على العلن كانت ولا تزال دائرة بين الاكتساب والنكوص على مر تعاقب الحضارات تالدها وطارفها ، فالفكر الإنساني منذ أن وعى على الحيف الواقع على المرأة قدم للبشرية مفاهيم وإعلانات ومواثيق لإنصافها زوجة وأما وبنتا وفاعلة[i] في مختلف مناحي التقاطعات الإنسانية.

وإذا كان الأصوليون يقولون أن “الحكم على الشيء فرع من تصوره”  ، فإن ذلك يستلزم منا تحديد المفاهيم بداية “فمفهوم الجندر” الذييعد منالمفاهيم الملتبسةالحمالة لأوجه متباينة أرخت بظلالها على وظيفته الأساسية كمقاربة لعدالة النوع الاجتماعي، ليتحول إلى مفهوم نقدي يعاير على التجريد من  الفوارق  الجنسية،  أو بعبارات  مبسطة  خلع ثوب الذكورة والأنوثة  وكافة الفوارق البيولوجية أو التاريخية التي يمكن أن تكون سبباً في أي تمييز جنسي بين الرجال والنساء، وهو بهذا المعنى بدأ يحيد عن تـأصيله الفكري الذي بدأ متجسدا في عدالة النوع الاجتماعي، ولعل هذا من باب أن الضغط الاجتماعي والنزعة الذكورية للمجتمعات تولد مثل هذه التطرفات الفكرية، لكن الأمر لا يعدو أن يكون في النهاية حالة عابرة متجاوزة بالتدافع الفكري والفلسفي وحتى النضالي في مسيرة العدالة الجندرية، ليبين غثها من سمينها  ورثها من ثمينها.


أما الخطاب الأدبي فهي تسمية أطلقت لتمييزه عن باقي الخطابات كالخطاب الإبلاغيمثلا في انزياح للبعد الجمالي والإبداعي داخل هذا النص، فوجـود خطـاب أدبـييفترض بداهة وجود خطاب غير أدبي ، وعلى الرغم من أن اللغة هي ركن الزاوية في كلا الخطابين  غير أنها في الخطاب الأدبي ليست مجرد قناة عبور الـدلالات، إنمـا هـي غايـة تـستوقفنا لـذاتها، و بينمـا يكـون الخطـاب العـادي شـفافا نـرى مـن خلالـه معنـاه من الوهلة الأولى، نجـد الخطاب الأدبي علـى عكـس ذلك تماما طبقاته أكثر سمكا  يـستوقفنا كنص بذاته قبل أين يسلمنا قابلية اختراقه .

وإدا رجعنا إلى “الخطاب الأدبي النسوي”نلفي أنهانطلاقا من الشاعرة الإغريقية سافو إلى الشاعرة العربية الخنساء إلى الكاتبة آغاثا كريستي وفيرجينيا وولف وغيرهن كثيرات قد بصمن بقوة واجهة الأدب العالمي بملامحنون النسوة البهي ، فلكل كاتبة تورتها الإبداعية الخاصةفي مواجهة واقعها وإكراهاتهامما خلق على مر العصورخطا نضاليا تحرريا نجحت الكثير من المبدعات في رسمه بطرق متباينة. ولا شك كذلك أن النساء العربيات قد خضن تجربة الخطاب الأدبي بكل ضروبه منذ أن بدأ الإنسانيعبر عن نفسه ومحيطه بشاعرية وإبداع باستعمال اللغة “حوالي 200 سنة قبل الدعوة الإسلامية”، ففي الأدب الشعري مثلا والذي كان علما قائما بذاته قبل الإسلام حيث  يقول في ذلك عمر ابن الخطاب قولتهالشهيرة التي نقلها الجاحظ “أن الشعر كان علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه ” نجد من فطاحل الشواعر  تماضر بنت عمر الخنساء وفي الخطابة نجد  الفصيحة التي لا تضاهى جليلة بنت مرة ، ثم تواترالإبداع النسائي في العصور التالية خصوصا كلما كانت فسحة حضارية تسمح للنساء بالخروج بإبداعاتهن إلى العلنابتداء من صدر الاسلام و العصر الأموي والعباسي إلى العصر الحديث حيث تطالعنا إشراقات مشرفة للمرأة المبدعة ، ونذكر هما دون قصد الحصر الشاعرة ولادة بنت المستكفي في الأندلس التي كان لها صالون شعري مفتوح تستضيف فيه الأدباء وقد كان ابن زيدون من ضمن ضيوفها في هذا الصالون دون أن نغفل أن المعتمد ابن عباد كانت أمه العبادية شاعرة وزوجته اعتماد شاعرة وابنته بثينة شاعرة ، ولعل صالون الشاعرة الأميرة الموحدية رميلة كأول مبدعة في الزجل المغربييعد مثالا جميلا وراقيا عن خروج الإبداععن تصنيفه الجندري.

ومن الأبحاث الراقية التي استهوتني والتي تعرضت للأدب النسائي في الأندلسوأزاحت الستار عن أهمية، وجمال هذا الشعر، دراسة باللغة الاسبانية للباحثة والشاعرة الاسبانية – الكتلانية كلارا خانيسْ تحت عنوان: “الشعر النسوي في الأندلس”، حيث تقدم هذه الدراسة فكرة واضحة عن المدى البعيد الذي أدركته المرأة (عربية كانت أم أمازيغية) التي عاشت تحت الظلال الوارفة للحضارة الأندلسية من تقدم ورقي مقارنة بنظيراتها في باقي العالم الذي كان غارقا في الجهل.

حيث أشارت بهذا الصدد إلى أن الكتابة عند المرأة لا يمكنها أن تتحقق إلا إذا توفرت لديها شروط معينة منها التواجد في عصر بعينه يسمح لها فيه المجتمع بالمشاركة في الحياة العامة بشكل فعال، مع توفير مستوى ثقافي معين، فضلاً عن ضمان حرية القول، والإفصاح، والبوْح، والتعبير، بالإضافة إلى الانتماء إلى نمط اجتماعي بذاته. وتضيف عنصراً آخرا ليتسنى للمرأة مزاولة عملية الخلق والإبداع، وهو الانفتاح في العادات، والتقاليد، وعدم تحجرها، وجفائها، وجفوتها مثلما كان عليه الشأن في المجتمع الأندلسي الذي كان من أكثر المجتمعات انفتاحا، وانشراحاً وتسامحاً في القرون الوسطى. ولعل الباحث في هذا الموضوع يمكنه أن يتلمس أولى شرارات فكرة وسم الأدب “بالنسوي”في الأدب الغربي الذي كان منذ العصور الوسطى منغلقا ومتحيزا في ما يتعلق بالنساء ، بل أنه حتى عهود قريبة كانت الأديبات تتخفين تحت أسماء مستعارة لضمان رواج أفضل لإنتاجاتهن الأدبية.

ففي عام 1811 نشرت المؤلفة أوستين رواية ” المعنى والعاطفة” تحت إسم مستعار حسث وقعتها ب ” من قبل سيدة”

وفي هذا يقول البروفيسور ” كاثرين هيوز” أن أوستن نحت هذا المنحى لتؤخذ أعمالها على محمل الجد وأنها كتبت أغلب رواياتها تحت أسماء ذكورية لكي لا توصف بالعهر كجورج ساند 1804-1876 ولويزا ماي الكوت 1832_1888 اللاتي قمن بنشر أعمالهن تحت إسشم مستعار”AM Barnard “

ومن تم انتقلت هذه التجربة إلى الأديبات العربيات حيث كانت أليس بطرس أولامرأة نشرت قصّة قصيرة عام 1891 باسم “صائبة”؛ ففتحت للنساء المجال ليكتبن القصّة القصيرة والرواية.

كما كتبت مي زيادة بعدد من الأسماء المستعارة، نذكر منها “عائدة” و”إيزيس كوبيا”، وكانت أوّل امرأة تكتب في جريدة “الأهرام”، أمّا الثانية فكانت “بنت الشاطئ”، وهي الكاتبة المصريّة عائشة عبد الرحمن، الّتي لم تعتد أسرتها المحافظة انخراط النساء في الثقافة، واختارت هذا الاسم في إشارة إلى طفولتها في بلدة دمياط على شاطئ النيل.         .  

وبهذا المعني يتبين أن الأدب النسائيقد تراوح بين بين العتمة والإشراق بحسب الشدة والرخاء في الحضارات المتعاقبة  ،وقدطرحت إشكاليته بين الرفض و القبول عند النقاد و الأدباء. فعلى الرغم من تداول هذا مصطلح  تداولا كبيرا في اللقاءات و الملتقيات الأدبية فإنه لا يزال  مبهما وغير محدد  يتطرق إليه في غياب  التأصيل له وتحديد مرجعيته النظرية، ودون الحسم في كنهه ومدلولاته حيث ترسخت الكتابة النسوية عند البعض بكون النص الإبداعي مرتبطا بطرح قضية المرأة و الدفاع عن حقوقها دون ارتباط بكون أن الكاتبة امرأة. 

في حين طرح البعض الآخر معايرا للتمييز بين الطرح النسائي والذكوري.

في حين فضل فريق عريض من النقاد ربطه بحركة تحرير المرأة و حرية المرأة و بصراع المرأة الطويل التاريخي للمساواة بالرجل.

وفي خضم الخوض في هذه التعاريف اللامحصورة برزت بعض التعابير التمييزيةعلى أساس الجندر كما عند فاكت، حين يصف الأدب النسوي على أنه: “الأدب الذي تكتبه المرأة  مستسلمة فيه لجسدها، و الذي نلمح فيه الأكليشيهات الكتابية”.

   كماطفت إلى السطح بعض التسميات التي نشأت في الغرب ،ففي السويد مثلا أطلق على الكاتبات ” أدب الملائكة و السكاكين”، هذا الأمر استهوى بعض الكتاب العرب اللذين قلدوا هذا المنحىكأنيس منصور مثلا  حين أطلق على ما كتبته المرأة “أدب الأظافر الطويلة”، كما سماه إحسان عبد القدوس “أدب الروج و المانكير” .

ولاشك أن هذه التوسيمات  في حق الأدب النسوي في نظري هي توسيمات فاقدة لشرعيتها الأدبية في حق خط إبداعي نسائي وشريك مجتمعي فاعل وضاربة في التمييز الجندري  .

هذا الغلو والجنوح  دفع بالمرأة المبدعة إلى رفض هذا التمييز الذي بني على أساس تهميش إبداعها  بالمقارنة مع التركيز المفترض للأدب الذكوري الأمر الذي يؤدي إلى التصنيف داخل الإنتاج الأدبي كما ذهبت إلى ذلك الأديبة المغربية “خناثة بنونة”.

كما تعتبر الأديبة السورية “غادة السمان” مجرد الخوض في المفهوم يعد حوارا عقيما فهي ترى أنه من حيث المبدأ ليس هناك تصنيف لأدبين نسائي و رجالي. وفي نظري فإن الأدب النسائي ليس بدعة في الأدب بل يتماشى مع أنساقه وتقاطعاته وانشغالاته والمرأة كما الرجل قادرة على خوض غماره والتأثر والتأثير فيه بتجربتها الشخصية  من منظورها الفطري والمكتسب في المعالجة والتأصيل والإنتاج الفاعل في النقلات التاريخية له،خاصة في ظل هذه التحولات المتسارعة التي جعلت المنتظم الدولي يقيس مؤشر احترام حقوق الإنسان داخل المجتمعات بمدى الحقوق الممنوحة للمرأة في التعبير عن أراءها وولوجها لكافة مناحي الفعل المجتمعي ، ولعل الإبداع والخلق الأدبي يبقى من أهمها.

وتعتبر التجربة المغربية الحديثة رائدة في العالم العربي بخصوص الدفع بالشأن النسائي إلى المعترك المجتمعي من خلال المساواة والمناصفة وذلك بالتنصيص على هذين المبدئين في الوثيقة الدستورية،وفي مختلف التعديلات التي طالت مجموعة من القوانين من بينها مدونة الأسرة وقانون الشغل والقانون الجنائي.

 وأعتقد أن المرأة المغربية وإن كانت مدمجة من ظاهر الممارسة في عملية التنمية الشاملة، فإن هذا الإدماج يبقى قاصرا في بلوغ مطلب المناصفة والذي يقتضي تقدير مجهودات المرأة في مختلف المجالات الإنتاجية وتمكينها من فرصمتساوية و متكافئة من أجل تشكيل هوية جندرية غير منحازة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.